يعود التاريخ العريق لرأس الخيمة لنحو 7000 عام استمر خلالها وجود البشر على أرضها دون انقطاع، ليشمل جميع  العصور الأثرية والتاريخية. حيث عبرت المنطقة خلالها ضمنَ العديد من مراحل تَشَكّل التضاريس التي أدت لنشوء الجبال  الشاهقة والسهول الخصبة، والبحيرات، والمساحات الصحراوية، الأمر الذي أضفى تنوعاً كبيراً على بيئتها وجعلها مواتية لاستيطان البشر منذ القِدَم. 

العصر الحجري الحديث

على بُعد ثلاثة وعشرين كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من مدينة رأس الخيمة حالياً، وتحديداً بجوار قرية الصيد  المهجورة “الجزيرة الحمراء”، لا تزال بقايا تلٍّ مهجورة من صنع الإنسان حاضرة لتدل على عراقة تاريخ المنطقة، وهذه التلّ عبارة عن أطلال لمبانٍ تعود إلى عصور ما قبل التاريخ والمشهورة باسم الصدفة، وتتكون معظمها من بقايا عظام الأسماك وأصداف الرخويات، فضلاً عن عظامٍ لبقر البحر (الأطوم) والماشية.على الرّغم من أن هذه التلّة لا تحظى باهتمام السائحين وزوار تلك المنطقة الأثرية، إلا أن لها قيمة وأهمية كبرى لفهم ومعرفة الماضي القديم لإمارة

رأس الخيمة.

عندما تم رصد هذا الموقع الأثري للمرة الأولى في أواخر ثمانينيات القرن الماضي من قِبَل علماء الآثار الألمان، تم العثور على أجزاء من فخار بلاد ما بين النهرين داخل كومة من رفات عظام الأسماك وأصداف الرخويات التي تعود إلى فترة العبيد، إن وجود هذه البقايا الأثرية يعني أن تاريخ التلّة يعود إلى أواخر العصر الحجري، ويمكن القول إنه يعود إلى الألفية الخامسة أو السادسة قبل الميلاد، وتشير هذه الحقائق إلى أن بقايا قطع الفخار كانت من بين أقدم اللقى (القطع) الأثرية التي تم العثور عليها في الخليج الأدنى. كما أن علماء الآثار قدموا دليلاً على أن تاريخ رأس الخيمة يرجع إلى ما لا يقل عن 7000 عام.

 

إناء أثري من الفخار يعود إلى فترة العبيد وقد زُيّن بطلاء بني داكن. © متحف المتروبوليتان للفنون، نيويورك

ساعدت الطبيعة المتميزة لفخار العبيد في التعرف إليه ضمن مواقع أخرى في جميع أنحاء البلاد، ويرجع ذلك إلى تميز تصميماته الهندسية واستخدام الطلاء الداكن فوق طبقة باللون الكريمي. كما تم العثور على اكتشافات مماثلة على طول الساحل في إمارتي الشارقة وأم القيوين، وكذلك في العديد من الجزر قبالة ساحل أبوظبي. بشكل عام، فإن هذه القطع الأثرية مجتمعة، وإن كانت محدودة، فإنها تسهم في فهمٍ أعمق للحياة في رأس الخيمة أواخر العصر الحجري.

لم يُعرف عن الأشخاص الذين سكنوا الإمارة قبل 7000 عام سوى القليل جداً، ولكن على مدار الثلاثين عاماً الأخيرة تم الكشف عن بعض التفاصيل التي أوضحت مجريات الحياة في ذلك الوقت. فقد كان سكان الإمارة يعيشون في مستوطنات موسمية على طول الساحل، متخذين من الغوص وصيد السمك بشكل عام مهنة لهم، فالأدلةُ تشيرعلى وجود كمياتٍ كبيرةٍ من عظام الأسماكِ وبقر البحر (الأطوم) والسلاحف والدلافين في تلك المنطقة، ما يدل على أن المأكولات البحرية شكّلت مصدر رئيسًا لغذائهم، فضلاً عن وجود عظام مصدرها الماشية، ما يعني أنهم امتهنوا تربيتها أيضاً، كما تكشف بقايا فخار العبيد التي تم العثور عليها في الجزيرة الحمراء عن نشاطات التجارة البحرية

آنذاك، لكن الصورة الكاملة لهذا النوع من التجارة لا تزال غير واضحة.

كان سكان هذه المنطقة في الأساس إما من البدو الرُحّل، أو شبه الرُحّل، ممن يعملون في رعاية قُطْعان الماشية والأغنام والماعز، ويصطادون الحيوانات البرية بأسلحة من الصوان وأحجار أخرى، على غرار الغزلان. وقد تسنى لهم العيش في كنف أراضٍ كانت أكثر اخضراراً مما هي عليه اليوم.
إن العثور على رؤوس سهام وكاشطات، وسكاكين، وأدوات حفر، إلى جانب رقائق حجرية (نوع من الأدوات الحجرية)، وشفرات مصنوعة من أنواع مختلفة من حجر الصوان، مدفونة في التلة بالقرب من الجزيرة الحمراء يدلُّ ويؤكّدُ على تطور أدوات الصّيد -في تلك الحقبة- في عدّة مواقع داخل الإمارات العربية المتحدة، إذ تم العثور على قطع صوان مماثلة تعود إلى الحقبة الزمنية نفسها في مواقع بالقرب من قرية خت، بما في ذلك مكان لتصنيع تلك الأسلحة، يوجد به أدوات مكسورة أو غير مكتملة. وتشمل هذه الأسلحة وجود ساطور (سكين كبيرة) ذي حدين، وقدّوم (شبيه بالفأس)، وإسفين، ورأسي سهم صغيرين مكسورين، والعديد من الكاشطات والشفرات وأدوات الحفر. من الواضح أنهم كانوا يستخدمون أدوات الصيد البدائية هذه في الصيد والتقطيع والتجميع بهدف الاستقرار.

على الرغم من صعوبة تخيُّل الأجواء المناخية التي سادت قبل 7000 عام، إلا أنها كانت أفضل من الظروف المناخية الحالية، حيث انتشرت آنذاك بحيرات المياه العذبة، والمروج الخضراء لتربية الماشية، فضلاً عن وفرة الأعشاب البحرية التي كانت مناسبة لبقر البحر (الأطوم) والكائنات البحرية الأخرى. في تلك الأيام كانت المناظر الطبيعية في رأس الخيمة فريدة من نوعها–كما هي اليوم-، وذلك بفضل ما تتسم به من بحار وجبال وسهول خصبة؛ فشكلت هذه الموارد مزيجاً رائعاً لا يقدر بثمن لأولئك الذين عاشوا هناك في تلك الحقبة الزمنية.

وفي سياق متصل، لم يتم العثور على أية لُقى أثرية أخرى من أواخر العصر الحجري، ما يجعل الأدلة على الوجود البشري قليلة وغير واضحة، وهو أمر لم تتجلَ تفاصيله حتى العصر البرونزي. 

العصر البرونزي

بدأت مؤشرات التطوير الثقافي تبدو أكثر وضوحاً خلال العصر البرونزي الذي ينقسم إلى أربع فترات منفصلة، وتمتد من فترة حفيت (3200-2600 قبل الميلاد) في أواخر الألفية الرابعة وأوائل الثالثة قبل الميلاد، إلى فترة أم النار (2600 – 2000 قبل الميلاد) ووادي سوق (2000 – 1600 قبل الميلاد)، حتى أواخر العصر البرونزي (1600 – 1250 قبل الميلاد) التي أسهمت بتشكيل منطقة دولة الإمارات العربية المتحدة وشمال سلطنة عُمان. 

وسُميت الفترات الثلاث الأولى تيمّناً بأسماء المواقع التي تم اكتشاف أدلة على وجودها فيها، أُطلق على فترة حفيت هذا الاسم نسبة إلى المدافن التي عُثر عليها في جبل حفيت بمدينة العين، أما فترة أم النار فيعود اسمها لجزيرة تحمل الاسم نفسه قبالة ساحل أبوظبي، بينما سُميت فترة وادي سوق نسبةً إلى أحد المواقع في وادي سوق بين العين

وساحل عُمان. وبسبب نقص الأدلة التاريخية، كانت دراسة هذه الفترات تعتمد بشكل بحت على علم الآثار.

THE BRONZE AGE

مدافن يعود تاريخها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.

فترة حفيت (3200 – 2600 قبل الميلاد)

على عكس المستوطنين الذين عاشوا خلال العصر الحجري الحديث في رأس الخيمة، تميزت فترة حفيت بانتشار المستوطنات في الواحات. وعلى طول جبال شمال رأس الخيمة، وتحديداً حول “قرن الحرف” و”قرية خت” و”وادي القور”، تم الكشف عما يزيد على 150 مدفناً، وهو مؤشر إلى وجود آثار بشرية يعود تاريخها لأكثر من 5000 عام. وعلى الرّغم من قلّة المعلومات التي تم التوصل إليها عن حياتهم اليومية، إلا أن عدد هذه المدافن يدل على وجود مستوطنات قديمة في الواحات، ومجموعات شبه بدوية ارتحلت من مكان لآخر.

وعُثر على اللقى الأثرية لهذه الفترة في العديد من المواقع، بما في ذلك المنطقتان البارزتان، وهما: قرية خت وقرن الحرف. وقد اشتُهِرت الأولى بينابيعها الحارة، وتعد أقدم منطقة مأهولة بالسكان بشكل دائم في رأس الخيمة، مع وجود أدلة على نشاطات بشرية تعود إلى العصر الحجري الحديث، في حين أن المنطقة الثانية عبارة عن تلٍّ منعزلة أمام جبال الحجر تقع بين وادي البيح ووادي النقب. واكتشفت عالمة الآثار البريطانية بياتريس دي كاردي المدافن في قرية خت للمرة الأولى عام 1977 على التلال السفلية شرق الينابيع، وهي مصنوعة من الحجر المحلي غير المصقول أو المقطوع، وقد كانت في الأصل على هيئة خلية نحل مكونة من حجرة صغيرة، أو حجرتين للدفن، تتسع لشخصين وحتى خمسة أشخاص، وتقع الحجرتان على ارتفاع يقدر تقريباً بمترين، ويتراوح قِطْر كلّ منهما بين سبعة وتسعة أمتار. وعلى الرغم من أن البناء الداخلي لهذه المقابر نادراً ما كان مرئياً، إلا أن الغرف المركزية الصغيرة كانت مكشوفة جزئياً. غالبية الحجرات إما تعرضت للانهيار أو نُهِبت، رغم أن معظمها تشترك في الخصائص الهيكلية، وتنتشر على مساحة تُقدّر بنحو كيلومتر واحد تتمركز على هضبة صغيرة، شبيهة بتلك التي عُثِرَ عليها في مدينة العين.

واكتشفت دائرة الآثار والمتاحف بإمارة رأس الخيمة في “قرن الحرف” على أكبر مجموعة من حجارة حفيت في رأس الخيمة. كما تتوزع أكثر من ستين مقبرة على مجموعات صغيرة على حواف وأسفل التل. وتشير هذه الأعداد الكبيرة إلى مستوطنة قديمة تعود إلى عصر ما قبل التاريخ، مثل تلك التي تم العثور عليها في منطقة الحيل والفحلين.

The Hafit Period img

آثار مدافن وادي سوق في قرن الحرف ضمن سهل خصب يحتوي على ستين من أنظمة المقابر وحجراتها على الأقل. © لي هوغلاند / ذا ناشيونال

أصبح تأريخ هذه الهياكل ممكناً، وذلك من خلال الاكتشافات الفخارية التي عُثِرت في عدد من أقدم مقابر العين، وتضمّنت النّتائج فخاراً مزخرفاً من بلاد ما بين النهرين يعود إلى فترة جمدة نصر (3100 – 2900 قبل الميلاد)، ومجموعة من خرز الأنابيب الصّغيرة باللّونين الأزرق والأخضر، ويُظْهِرُ لنا فخار هذه المنطقة تشابهاً مع ذاك الموجود في منطقة بلاد ما بين النهرين (العراق حالياً) للفترة ذاتها، الأمر الذي يؤكد نشأة علاقات تجارية في وقت مُبكر شبيهة بالعلاقات القائمة في وقتنا الحاضر، علاوة على ذلك فقد اكتشفت دائرة الآثار والمتاحف أدلة تاريخية أخرى خلال أعمال الحفر والتنقيب الأخيرة في ” قرن الحرف”، حيث عثرت على أجزاء من الفخار تعود إلى أواخر فترة حفيت / أوائل فترة أم النار، وعند الأخذ بالاعتبار أن معظم المقابر التي تعود إلى فترة حفيت تعرضت للنهب والسرقة، فإنه لا يتوافر لدينا سوى القليل من المعلومات التي من شأنها أن تسهم في التّوصل إلى صورة واضحة عن سكان تلك المنطقة، ولم يتم اكتشاف أي آثار أخرى تدل على وجود مبانٍ، أو مستوطنات قديمة تعود إلى هذه الفترة في رأس الخيمة وبقية مناطق الإمارات العربية المتحدة.

فترة أم النار (2600 – 2000 قبل الميلاد)

تركت فترة أم النار لرأس الخيمة بعضاً من أروع الاكتشافات الأثرية، ولا يوجد مكان أكثر وضوحاً من منطقة شمل في إمارة رأس الخيمة، حيث عُثر على مقبرتين دائريتين تعدان من أكبر هياكل الشعائر الجنائزية لأم النار التي عُثر عليها جنوب شرق شبه الجزيرة العربية. ويعكس هيكلها المتطور، فضلاً عن الأعداد الكبيرة لأشخاص دفنوا فيه أهمية رأس الخيمة في الألفية الثالثة قبل الميلاد. 

ثمة موقع أثري آخر فريد يبعد نحو ثمانية كيلومترات إلى الشمال الشرقي من مدينة رأس الخيمة الحديثة، وهو “شمل” الذي يمثّل كنزاً دفيناً من مقابر تعود بجذورها إلى فترة ما قبل التاريخ. كما أنها تعد أكبر موقع أثري في المنطقة يعود تاريخه إلى فترة ما قبل الإسلام، وتنبع أهميته من ارتباطه بثقافة أم النار، وجميع العصور اللاحقة قبل ظهور الإسلام. كما أن وجود مزارع النخيل عند سفوح جبال الحجر، يدل على موقعه المتميّز، فضلاً عن كونه ممرًّا يوفر وصولاً سهلاً إلى ملاذٍ آمن ومناطق نائية خصبة، ما يعني أن منطقة شمل كانت موقعاً جغرافياً غاية في الأهمية. واستفاد الكثيرون قديماً من الموارد الطبيعية الحيويّة التي اتسمت بها جبال الحجر حيث أسهمت آنذاك بازدهار الاقتصاد، وسيظل المكان مهّماً ويُعتدّ به في منطقة شبه الجزيرة العربية. 

لقد تم اكتشاف أول مقبرتين من مدافن منطقة شمل بواسطة بعثة ألمانية من جامعة غوتنغن عام 1987 إضافة إلى اكتشافِ رفات ما يقرب من 100 شخص، حيث عُثِر في المقبرة على فخار محلي الصنع، فضلاً عن فخارٍ يعود إلى بلاد ما بين النهرين وبلوشستان والبحرين ووادي السند. وهناك أيضاً إشارات تدلّ على وجود مستوطنات كبيرة تدعمها زراعة الواحات بما في ذلك زراعة أشجار النخيل، ووفقاً للاكتشافات في مواقع أخرى بدولة الإمارات العربية المتحدة التي تبرز أكثر من غيرها في منطقة الهيلي بمدينة العين، فإن الأنظمة الزراعية في فترة أم النار كانت تستند إلى الريّ بالمياه السطحية أو مياه الآبار.

مقبرة كبيرة تعود إلى فترة أم النار في منطقة شمل.

تم التّنقيب عن المقبرة الثانية التي يقع على بُعد 200 متر شمال الأولى، في عامي 1997 و1998 من قِبَل فريق دائرة الآثار والمتاحف بإمارة رأس الخيمة. وكانت أكبر مقبرة معروفة من نوعها في دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان، وقد بلغ قطر الهيكل الدائري 14.5 متراً، وتألفت القبور في الداخل من حجرات عدة صُمّمت للدفن الجماعي لا للدّفن الفردي، ومن المُرجح أن تكون للعائلات الكبيرة التي استخدمت هذه القبور لأجيال عدة، لم يبق من هذه القبور سوى الأجزاء السفلية من المبنى، رغم ارتفاع القبر الذي يتراوح بين مترين وثلاثة أمتار، ويضم اثنتي عشرة غرفة دفن مقسمة بجدران داخلية. وبشكل إجمالي كانت هنالك ثلاث وحدات قبور، لكل منها مداخل متطابقة.

لقد أقيمت الجدران الخارجية للمقبرة على قاعدة ذات وجهين مختلفين يشكلان الجدار الدائري. وتم تشكيل حجارة الرماد المقطعة من الحجر الجيري الأبيض لتتناسب مع شكل القبر المنحني. وتمتد هذه الواجهة اللاّمعة والنّاعمة حتى السّقف، ما يعطي انطباعاً بوجود برج أبيض كبير. أمّا في الداخل فكانت هناك طبقة من الحجارة المنحوتة تقريباً، حيث أغلقت جميع المداخل بأحجار ذات أشكال خاصة، في حين سهّلت مقابضها المنحوتة عملية الفتح والإغلاق كلما احتاجوا الوصول على أماكن الدفن.

لعلّ طقوس الدفن الجماعية التي حدثت في كلا المقبرتين معقّدة؛ فعَقِبَ الدفن الأولي على الأرضية المرصوفة، وبعد إزالة العظام والمقتنيات الجنائزية، كانوا يقومون بحرقها وإعادتها إلى القبر، ثم توضع على الرفوف. وقد دفن مئات الأفراد مع مجموعة واسعة من المتعلّقات الشخصية والقطع الأثرية، مثل الأواني الخزفية، والمجوهرات، والأسلحة والأواني الحجرية الملساء. وفي وقت لاحق كانوا يعمدون إلى حرق الجثث لإفساح المجال لمزيد من المدافن، ، وهذا يفسّر لنا وجود عدد كبير من الجثث والتي تقدّر بما يزيد على 400 جثّة، حتى إنه تم دفن امرأة مع كلبها.

وتم اكتشاف مقابر مشابهة لمدافن “أم النار” في مواقع أخرى عدة في جميع أنحاء الإمارة، بما في ذلك وادي المنيعي واعسمة، إذ عُثِرَ على مجموعة من القطع الأثرية المهمة، مثل أقداح برونزية، ورؤوس رماح، وأنصال خناجر.  ويشير اكتشاف أجزاء وبقايا جِرار للتّخزين تعود إلى حضارة وادي السند، (باكستان والهند حالياً) إلى أنه من المُرجح أنهم كانوا يصدّرون كميات كبيرة من البضائع إلى الخليج. ففي مقبرة أم النار الكبيرة بمنطقة شمل على سبيل المثال، شكّل الفخار المستورد 15 في المائة من إجمالي المجموعة المكتشفة، بما في ذلك فخار بلاد ما بين النهرين الذي يرجع إلى أواخر العصر الأكادي، فضلاً عن فخار بامبور وكفتاري من مقاطعتي بلوشستان وفارس في إيران على التوالي. إضافة إلى ذلك، كُشِفَ النقاب عن فخار منقوش أسود ورمادي اللون من إيران، إلى جانب أجزاء تعود إلى قرية هارابا في باكستان.

وتشير الأدلة أيضاً، إلى أن النحاس جرى شحنه من الخليج الأدنى إلى بلاد ما بين النهرين ووادي السند. وتصف نصوص بلاد ما بين النهرين نشوء العلاقات التجارية مع منطقة في شبه الجزيرة العربية تُعرف باسم “ماجان” منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. ويعتقد المؤرخون أنها كانت تشمل منطقة تغطيها الآن الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان،
فقد كانت “ماجان” مصدراً قيّماً للنحاس، تستخدمه القوى الإقليمية في ذلك الوقت. وكان يُستخرج من جبال
الحجر، ويتم شحنه بكميات كبيرة إلى مدن في بلاد ما بين النهرين ووادي السند، إلى جانب سلعٍ أخرى مثل الأخشاب والحجارة. وأسهمت هذه العلاقات التجارية في تطور الثقافات بشكل متزايد، حيث امتدت عبر طرق التّجارة المهمّة بين المواقع السّاحلية والدّاخلية في سلطنة عُمان، وتلك الموجودة على الساحل الإماراتي، ويشير وجود مثل هذه العلاقات التّجارية إلى انتشار ثقافة السّفر بالسفن والملاحة آنذاك؛ حيث تطرّقت نصوص بلاد ما بين النهرين التّاريخية إلى “سفن ماجان” أيضاً.

نموذج لسفينة من ماجان. © مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية، سلطنة عُمان

ومقارنة مع العصور السابقة، فإنّ كمية الأدلة ونوعيتها مكّنت علماء الآثار من بناء صورة أكثر وضوحاً عن مجريات الحياة في رأس الخيمة؛ فنجد أن المجتمعات خلال فترة أم النار كانت تعتمد على زراعة القمح والشعير والتمور وتربية الماشية، مثل: الأغنام والماعز، كانوا يعمدون أيضاً إلى الصيد البري والبحري، ولكن على حسب موقع المستوطنات، والصيد المتاح آنذاك، وهناك أيضاً، أدلة على تطور مجموعة واسعة من الصناعات الحرفية، بما في ذلك إنتاج الأواني الحجرية الملساء والفخار، وهذا ما أظهرته العديد من الأضرحة الحمراء الجميلة التي كانت تنتج محلياً، وتمّ العثور عليها في المقابر .الكبيرة في منطقة شمل. ويمكن القول إن استغلال النحاس وتصديره للخارج أدّى إلى إنشاء مجتمعات أكثر ازدهاراً وتقدماً.

إضافة إلى المقابر الكبيرة فقد ظهرت عناصر أخرى من المُرجح أنها تعكس الحياة الاجتماعية في مناطق أخرى فالمنطقة كالأبراج الدفاعية الكبيرة الكائنة في العين. والفجيرة.

فترة وادي سوق (2000 – 1600 قبل الميلاد)

لا تزال فترة الانتقال من فترة أم النار إلى فترة وادي سوق محل اختلاف، فعلى الرغم من أن المتفق عليه عموماً هو أن تغير المناخ بدأ في تغيير حياة أولئك الذين سكنوا شبه الجزيرة العربية منذ عام 2200 قبل الميلاد تقريباً؛ إلا أن مدى هذا التحول يبقى محل تساؤلات عدة؛ هل أدى تغيّر المناخ إلى الابتعاد عن نمط حياة المجتمعات المستقرة والعودة إلى أسلوب حياة أكثر بداوة؟ أم أن المستوطنات استمرت على الرغم من التّغيّر الكبير الذي حدث في المناخ؟ أياً كانت الإجابة، فقد حدث التغير المناخي على مدى أكثر من 200 عام.

لكن ما تمّ تأكيده هو أن البداية المفاجئة لتغير المناخ أدت إلى تعرض المنطقة لجفاف شديد، وتغير مشهدها الطبيعي جذرياً. وسبب حدوث هذا التغيير غير معروف حتى الآن، حتى إنه كان سبباً في سقوط الإمبراطورية الأكادية في بلاد ما بين النهرين، ما دفع السكان إلى هجر القرى والبلدات إلى أماكن أخرى. كما أدى هذا التغير إلى انهيار التجارة الإقليمية في بلاد ما بين النهرين، وتدلنا تلك المكتشفات على تراجع حضاري في تلك الفترة، إمّا بسبب التغيرات المناخية القاسية، أو لتوقف التجارة الخارجية للنحاس إلى بلاد ما بين النهرين. وهنالك اعتقاد أن ذلك الجفاف استمر لما يزيد على 300 عام، وانهارت حضارة وادي السند بسبب تراجع وضعف الرياح الموسمية الصيفية.

وفي شبه الجزيرة العربية، أدت تلك الأحداث إلى هجرة الناس بحثاً عن المناطق التي توفر لهم المياه العذبة ومصدراً ثابتاً للغذاء. ومن بين تلك المواقع كانت رأس الخيمة. كما يمكن القول إن غالبية مواقع وادي سوق تنتشر على طول الساحل الشمالي، حيث الموارد البحرية وحدائق النخيل والمياه العذبة التي مكنت البشر من أن يسكنوا تلك المنطقة. ومقارنة مع فترة أم النار فقد كان المناخ رطباً وشكّلت الحياة في المناطق الداخلية تحدياً صعباً، ولهذا فإن التنوع في المشهد الطبيعي لرأس الخيمة أسهم في توفير بيئة مواتية للعيش فيها.

ويجب الإشارة هنا إلى أنّ مطلع الألفية الثانية قبل الميلاد لم يتميّز بحدوث تغيير مفاجئ في طريقة العيش والاستقرار فحسب؛ بل في بل في طريقة بناء المقابر وشكل الفخار المصنوع أيضا، حيث يشير موقع مقابر وادي سوق إلى أن غالبية الناس كانوا يعيشون في مستوطنات متفرقة من حدائق النخيل. ويكشف تحليل بقايا الهياكل العظمية لثلاث مقابر في منطقة شمل التي يعود تاريخها إلى بدايات فترة وادي سوق وأوسطها وأواخرها، عن تحول تدريجي من نظام غذائي متنوع إلى آخر تهيمن عليه المأكولات البحرية بشكل أكبر، وذلك رغم وجود أدلة على استمرار استخدام الأنشطة الزراعية في مواقع أخرى بالإمارات العربية المتحدة، خاصة (تل أبرق) الواقع بين الشارقة وأم القيوين، إذ اعتمد سكانها أيضاً على البحر، وقد اقتصرت هذه العادات على الإمارات الشمالية (رأس الخيمة وأم القيوين والشارقة)، في حقبة حافظت على تقاليد الدفن الجماعي بشكل واسع.

مقبرة تعود إلى فترة وادي سوق في منطقة شمل، وقد أدرِجَت ضمن قائمة مواقع التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو).

وكما ورد سابقاً، فإن منطقة شمل تعدّ نقطة تركيز أساسية، وهي موطن لمئات المقابر من فترة وادي سوق، وتعد أكبر مقبرة تتكون من أضرحة مصنوعة من صخور الميغاليث في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية. وعلى عكس فترة أم النار، فإن أكبر مقابر وادي سوق طويلة وضيقة، ويصل طولها إلى أربعة وعشرين متراً. وقد شكّلت مقابر جماعية لما لا يقل عن ثلاثين إلى ستين شخصاً، وتم تشييدها من أحجار الكلس المحلية. وحتى وقتنا الرّاهن، تم اكتشاف 150 من هذه القبور التي بنيت فوق سطح الأرض، ليس في “شمل” وحسب، وإنما في جميع أنحاء الإمارة. وتتكون القبور من غرفة واحدة، أو غرفتين، بجدران مزدوجة، ومدخل واحد يقع في منتصفها على جانب واحد. وفي “شمل”، صُممت معظم المقابر لتلائم طبيعة التضاريس، ما يمنع تسرّب مياه الأمطار إليها.

لقد تباينت وتنوّعت هذه المقابر في تصميماتها، من المقابر الجماعية الكبيرة المذكورة أعلاه إلى الهياكل الصغيرة (إما مستطيلة، أو بيضاوية الشكل) ذات جدران مزدوجة. كما عُثِرَ على تجمعات كبيرة من المقابر في ضاية وخت ووادي غليلة وقرن الحرف، حيث تم اكتشاف ثماني مقابر أثرية في وادي سوق في عام 2013، إلى جانب مقابر أصغر في وادي المنيعي. استخدمت بعض المقابر على مدى فترة طويلة من الزمن، وكانت تشتمل على حجرة دائرية خارجية إضافية تحيط بالمقبرة الداخلية القديمة، مع وجود ممر بينهما.

في مواقع الدفن هذه، تم العثور على مجموعات مُحيّرة من المقتنيات الشخصية بما في ذلك الأسلحة والمجوهرات، وأدوات مميزة من الفخار المُلوّن تشمل أكواباً وجراراً للسوائل، بينما تضم المجوهرات خرز العقيق والأحجار الكريمة، إضافة إلى خواتم من الصدف والبرونز، وأقراط فضية وأساور من البرونز أيضًا، كما عُثِرَ على مجوهرات بهيئة حيوانات صُنعت بعناية فائقة على شكل دبابيس أو دبابيس مزخرفة (بروش) من الفضة والكهرمان (إليكتروم) في كل من “شمل”، و”ضاية” و”قرن الحرف”، وتتألف هذه المجوهرات إمّا من تمثال حيوان واحد أو اثنين ملتصقين ظهراً لظهر، بذيول ملتفة للأعلى على شكل دوامة. لقد شكّلت تلك التماثيل الحيوانية ثروة متراكمة بحسب اعتقاداتهم، ومن المرجح أنها صُنِعت في فترة تجارة النحاس، ثمة دليل آخر على ازدهار تجارة النحاس في تلك الفترة، وهو وجود فخار في مقابر “وادي سوق” يعود إلى حضارتي وادي السند والبحرين، علمًا أنّ الفضة المستخدمة في المجوهرات كانت من الأناضول، ومكعبات الوزن من حضارة وادي السند.

أواخر العصر البرونزي (1600 – 1250 قبل الميلاد)

استمر احتلال عدد من مستوطنات وادي سوق خلال أواخر العصر البرونزي، بما في ذلك “تل أبرق”، و”كلباء”، في حين أن الكثير من المعلومات حول فترة أواخر العصر البرونزي في رأس الخيمة جاءت عن طريق الاكتشافات في مستوطنة واقعة بمنطقة شمل التي تمّ التنقيب عنها للمرة الأولى عام 1986، وقد شُيّدت على منحدرات “رؤوس الجبال”، وتمت توسعتها حول صخرة بارزة مثلّثة الشكل، وكشفت المستوطنة -المحصنة بجدار دفاعي كبير كان قد أقيم على طول حافة مصطبة الوادي إلى الجنوب- عن وجود بيوت عريش قائمة على مستويات متدرجة فوق الوادي، ويشير اكتشاف قواقع كبيرة في الغرب من المستوطنة، إلى أن سكّانها اعتمدوا على جدول مائي صغير للحصول على قوتهم، في حين أن التّمور وعظام الحيوانات تعد دليلاً على النشاط الزراعي في المنطقة. إنّ البقايا الأثرية الكثيرة التي عُثِر عليها خلال أواخر العصر البرونزي في مناطق غليلة وضاية والفلية والفحلين وخت دليل واضح على أن رأس الخيمة كانت مدينة مزدحمة ومكتظة بالسّكان./span>

وعلى الرّغم من أن بعض جوانب أواخر العصر البرونزي تدلّ على امتداد ثقافيّ من فترة وادي سوق، إلاّ أن اكتشافات الفخار التي تعود إلى “شمل” أظهرت اختلافاً واضحاً فيما يتعلق بالثقافة المادية، وتشمل الفخاريات المميزة على سبيل المثال أقداحاً وأوعية كبيرة وصغيرة، فضلاً عن أوعية صغيرة ومقوسة وهي الأمثلة الوحيدة المَطْلِيّة. إضافة إلى ذلك، ثمة تغيير ملحوظ في الأسلحة خلال هذا العصر أيضاً، حيث تم العثور على سيوف طويلة في المقابر في جميع أنحاء الإمارات العربية المتحدة بما في ذلك منطقة شمل، وهي سيوف يتراوح طولها بين ثلاثين وستين سنتيمتراً، كما تم العثور على سيوف قصيرة مميزة، وخناجر نصلها مصبوب بالمقبض كقطعة واحدة. وفي المراحل الأخيرة من الفترة نفسها استُخدمت الفؤوس ذات الثقب، واستمر استخدام تلك السيوف القصيرة في العصر الحديدي، وكان لها مقبض بحوافٍ مرصّعة، كما ظهرت رؤوس الأسهم للمرة الأولى في هذه الفترة./span>

العصر الحديدي

عُرِف العصر الحديدي (1300-600 قبل الميلاد) بظهور الابتكارات التقنية، وتطور القرى المبنية من الطوب الطيني ونشوء التحصينات الدفاعية المميزة وبروز النفوذ وصراعات القوى الأجنبية، وبرزت فيه أيضاً أنشطة تربية الإبل واستخدامها في نقل البضائع وسفر الناس عبر الصحارى، حيث كان لها دورٌ كبيرٌ في نمو التجارة الخارجية، وذلك بفضل إنشاء طرق للقوافل التجارية تمتد لمسافات طويلة وتربط جنوب شرق شبه الجزيرة العربية بجنوبها، فضلاً عن منطقة بلاد الشام، كان لهذا التطور في تربية الحيوانات فوائد كثيرة عادت على المنطقة، الأمر الذي يُعدّ تطوراً مُهمًّا للغاية بالنسبة للعصر الحديدي.

إناء حجري أملس يعود إلى العصر الحديدي. © متحف رأس الخيمة الوطني

منذ حوالي 1000 عام قبل الميلاد، تم اختراع نظام رَيّ متطور وجديد في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية آنذاك عُرِفَ باسم “الفلج”، ما يجعله أحد أقدم الأنظمة من نوعها في العالم، كانت الأفلاج عبارة عن سلسلة من القنوات تحت الأرض تنقل المياه من الطبقات الجوفية على طول الجبال إلى الأراضي الزراعية المنخفضة، وكان تأثير الأفلاج واضحاً؛ حيث أتاح توزيع المياه على عدد كبير من المزارعين وزراعة مساحات أوسع من الأراضي القاحلة في ذلك الوقت، واستلزم اختراع نظام الفلج تطوير المراكز الإداريّة، ما أدّى إلى تكوين مجتمعات أكثر تطوراً.

نظام الأفلاج في الإمارات العربية المتحدة يعود إلى قرون عدة مضت، منذ تدشينه في  عام 1000 تقريباً قبل الميلاد، إلى أواخر القرن العشرين. في الصورة فلج بمدينة العين  في عام 1954. © الأرشيف الوطني، الإمارات العربية المتحدة.
في الواقع ظهرت درجة معينة من المركزية السياسية والاقتصادية خلال تلك الفترة، مع وجود نقش مسماري من “نينوى” في “آشور” (العراق حالياً) يشير إلى “بايد”، ملك “قاد”، عاش هذا الملك في منطقة يرجح أنها اليوم (إزكي) بسلطنة عُمان، وكان يدفع الجزية إلى الإمبراطور الآشوري -آشور بانيبال- في عام 640 قبل الميلاد على وجه التقريب.

ثمّة اعتقاد يفيد بأن إدخال نظام الأفلاج أدى إلى زيادة كبيرة في عدد المستوطنات في جميع أنحاء المنطقة، في حين كانت المستوطنات متفرقة خلال الألفية الثانية قبل الميلاد، حيث تمّ الكشف عن عشرات من مواقع العصر الحديدي في جميع أنحاء دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان، ما يشير إلى أنّ هناك توسّع كبير واستيطان بالمنطقة، وتزامنت هذه الزيادة في عدد المجتمعات مع تطور معماري كبير، بينما استمّر بناء بيوت العريش، وقد تميز العصر الحديدي بمبانٍ أكبر، بما في ذلك المنازل المبنية من الطين أو الحجر، وفي كثير من الحالات كان من الممكن أن تكون هذه المباني مسيّجة بالجدران بما يمثّل حدوداً لمجتمعات كاملة. إنّ كلّ هذه التطورات في نظام الأفلاج والتوسع الزراعي وبناء المزيد من المباني الكبيرة تدلّ على زيادة في عدد سكان رأس الخيمة ودولة الإمارات العربية المتحدة في ذلك العصر.

وفي منطقة شمل، تم التنقيب عن بقايا مستوطنة بين حدائق النخيل والجبال، وكذلك تمّ التعرف إلى مستوطنات أخرى في مناطق غليلة وخت وضاية، حيث أمكن العثور على بقايا تحصينات من العصر الحديدي بالقرب من قمة تلٍّ يبلغ ارتفاعها سبعين متراً وتضم حصناً من القرون الوسطى. وفي الجهة الجنوبية لإمارة رأس الخيمة تمّ العثور أيضاً على العديد من المقابر الجوفيّة الكبيرة التي يعود تاريخها إلى فترة وادي سوق في منطقتي فشخة ونصلة بوادي القور ووادي المنيعي، وجميعها كانت مستخدمة في العصر الحديدي، إذ تعود تلك المدافن إلى قرى زراعية صغيرة تقع على حواف الوادي، وتتألف من مجموعات صغيرة من المنازل، واعتمدت هذه القرى على حدائق النخيل ورعي الأغنام والماعز وكانت على تواصل مع المجتمعات الساحلية

أمّا في منطقة الرفاق غرب مستوطنة نصلة، فقد عُثِر على بقايا مبانٍ مستطيلة الشكل، فضلاً عن هياكل دائرية يعتقد أنها كانت حظائر للحيوانات، وفي الجانب الشمالي من الوادي، وتحديداً على سلسلة من التلال المرتفعة المطلّة على الوادي الذي يقع أدناه، توجد أيضاً بقايا حصن كبير، وقد كشفت أعمال التنقيب عن وجود مبنى متعدد الغُرَف مع سلسلة من الدرجات المؤدية إلى الأعلى من الوادي الذي يقع أدناه.

وتشمل القطع الأثرية التي تمّ انتشالها من هذه المواقع أيضاً، على أوانٍ مطلية وغير مزخرفة، وعددٍ كبيرٍ من الحاويات الحجرية المنحوتة والمزخرفة، وأوعية حجرية محفورة ومعها إناء على شكل طائر أسطوري يُعرف باسم “فتخاء” (Griffin)وينطوي هذا الأخير على أهمية كبيرة نظراً لتشابهه بالأواني الآشورية الجديدة، وربما كان نسخة من الإناء المعدني الأصلي من “آشور” شمال العراق

ولا يزال الغموض يحيط بالكثير من المراحل الأخيرة للعصر الحديدي، ولكن هناك أدلة على أن الإمارات الشمالية، والساحل الشرقي الذي بات يُعرف الآن بسلطنة عُمان، أصبحا جزءاً من (ماكا)، وهي مقاطعة تابعة للإمبراطورية الأخمينية.

أواخر العصر الجاهلي (فترة ما قبل الإسلام)

كانت نهاية الإمبراطورية الأخمينية عام 330 قبل الميلاد تعني أن (ماكا) لم تعد ولاية فارسية، وأن جنوب شرق شبه الجزيرة العربية كان خالياً من التدخل السياسي الأجنبي لبعض الوقت على الأقل، وعلى الرغم من هزيمة الإمبراطورية الأخمينية على يد جيوش الإسكندر الأكبر، إلاّ أن الإغريق لم يتمكنوا من فرض هيمنتهم على هذه المنطقة، وأصبحت الإمبراطورية (البارثية) التي نشأت عام 247 قبل الميلاد قوة سياسية وثقافية رئيسة، غير أن تأثيرها في رأس الخيمة خلال القرون التي سبقت وصول الإسلام غير واضح.

ووبحلول القرن الرابع قبل الميلاد، تقلص عدد كبير من المواقع التي ميزت العصر الحديدي بشكل كبير -لأسبابٍ غير واضحة- في ظل وجود عدد قليل جداً من المواقع التي يرجع تاريخها إلى القرون القليلة الماضية قبل الميلاد، ومن بين أهم المواقع التي تعود إلى تلك الفترة منطقة مليحة، وهي تابعة للمناطق الداخلية لإمارة الشارقة، تليها مدينة الدور على ساحل إمارة أم القيوين، وكشفت المنطقة الأولى عن ثروة من المعلومات الأثرية، بما في ذلك البقايا النباتية التي وفّرت أدلة على زراعة القمح والشعير والتمور، كما شهدت أول ظهور للمقابر الفردية الضّخمة ، وإنتاج العملات المعدنية التي صيغت بأشكال تحمل صور الإسكندر الأكبر، والفخار القادم من مناطق بعيدة مثل رودس واليونان. وفي الوقت نفسه، يُظهر الأخير صلات تجارية واسعة النّطاق أسفرت عن عملة ذهبية واحدة للإمبراطور الروماني تيبيريوس، وست عملات معدنية من البرونز تعود إلى مملكة ميسان، وعملة برونزية للحارث الرابع ملك الأنباط، والظهور المبكر لمهنة الطواشة أو الغوص بحثاً عن اللؤلؤ الذي كان مُهّماً آنذاك للاقتصاد، وتَضَمّن ذلك ثقلاً على شكل جرس مع حَلَقة حديدية في الأعلى لربط الحبل، وكما هي في منطقة مليحة، فإن العديد من المقابر في منطقة الدّور تعطي انطباعاً بوجود ثروة كبيرة.

بقايا آثار لقصر شُيّد في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام، في مليحة، إمارة الشارقة. © مركز مليحة للآثار.

بخلاف منطقتي مليحة والدور، تم اكتشاف عدد قليل جداً من المواقع في الإمارات العربية المتحدة التي تعود إلى هذه الفترة، باستثناء منطقة كوش شمال رأس الخيمة، ويرجع تاريخ هذا الموقع إلى أواخر فترة ما قبل الإسلام وحتى العصر الإسلامي، ومن اكتشافاته أربع أوانٍ زجاجية رومانية على الأقل. وعلى الرغم من العثور على بعض المواقع المهمة، بما فيها المقابر الفردية وبعض المقابر القديمة التي أعيد استخدامها في مناطق شمل وعصيمة ووادي المنيعي، إلاّ أن هناك نقصاً في الأدلة التي تشير إلى فترة الهلنستي والبارثية (الواقعة في الفترة من 300 قبل الميلاد، وحتى 300 بعد الميلاد).

تشير الآثار المكتشفة في “كوش” إلى وجود بشري في المنطقة منذ القرن الرابع.

نأتي إلى العصر الساساني الأخير قبل وصول الإسلام (300 – 632 للميلاد)، فوفقاً لكارنماج أردشير باباجان (كتاب أفعال أردشير بن باباج) الذي يروي قصة أردشير، مؤسس السلالة الساسانية، فإن الإمبراطورية الساسانية قاتلت رجال “مازون” منذ البداية (ويجب الإشارة هنا إلى أن إمارة رأس الخيمة كانت جزءاً منها آنذاك). وعلى الرغم من أن حُكم الفُرس ربما اقتصر على الوجود العسكري على طول الساحل، إلاّ أنه من الواضح الآن أن جزءاً كبيراً من رأس الخيمة قد احتلته الإمبراطورية الساسانية خلال آخر مراحل حكمهم، ولا يوجد مكان أكثر وضوحاً على ذلك من كوش، وهي منطقة أثرية تقع ضمن سهل “شمل”. وكشفت الحفريات التي أجرتها دائرة الآثار والمتاحف عن مجمع كبير ربما يكون مبنى عاماً، ومجموعة متنوعة من القطع والعملات الأثرية، وتشمل هذه العملات عملة للملك الساساني كافاد التي تم صنعها في الوقت ما بين 507 و519 للميلاد، فضلاً عن ختم ساساني من العقيق ومزين بزخرفة غريفة. يوجد دليل آخر في منطقة خت يفيد بوجود مستوطنة تعود إلى العصر الساساني أقيمت خلال القرنين الرابع والخامس، وذلك بناءً على اثنين من التلال الصغيرة يرجع تاريخهما في الغالب إلى تلك الفترة أيضاً. وهكذا ظلت الإمبراطورية الساسانية مسيطرة على ساحل إمارة رأس الخيمة لأكثر من 200 عام، حتى وصول الإسلام وهزيمتهم اللاحقة على أيدي ملوك الأزد في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية.